من أبطال اكتوبر……رحلة حياة بين السماء والأرض من ميكانيكا الطيران إلى ميكانيكا القلوب

إعداد وحوار : نازك شوقي

لم يكن مجرد صوت أنين، بل صلاة صامتة تتسلّل إلى القلب قبل الأذن، على فراشه الممدود، بدت ملامحه تجمع بين الوجع والسكينة، كأن كل تنهيدة منه تروي حكاية عمرٍ من البذل والخدمة… ‏إنه العميد رؤوف، أو القمص حنانيا صبحي سرور، بطل أكتوبر الذي تحوّل من مهندس طيران في القوات الجوية إلى كاهنٍ خادمٍ للنفوس.

 

 

وحين همست زوجته تطلب منه أن يصلي لي، ارتسمت على وجهه ابتسامة صغيرة تشبه النور، نظرة طيبة مفعمة بالحنان كأنها امتداد لسنواتٍ طويلة من العطاء الذي لم يتوقف يومًا.

 

فاليوم، وهو طريح الفراش، لا يبدو مشهدًا للضعف، بل صورة لرجلٍ ما زال يخدم حتى بصمته؛ فصوته الهادئ ودندنته الخافتة يعيدان إلى الذاكرة رحلة عمرٍ من الإيمان والتفاني، لرجلٍ جمع بين انضباط الجندي وحنان الراعي، وبين ميكانيكا الطيران وميكانيكا القلوب… قصة حياة تُروى بالمواقف والابتسامات، وبالصبر الجميل الذي صار رسالة قائمة بذاتها.

 

 

وقبل أن ننتقل إلى تفاصيل الحوار مع زوجته تاسوني نجدة، نُلقي نظرة على مسيرة هذا الرجل الذي امتدت حياته من سماء الوطن إلى عمق الروح.

 

البداية: تفوق مبكر ومسيرة مضيئة

وُلد رؤوف في أسرة طيبة متدينة يسودها الهدوء والنظام. منذ طفولته ظهرت عليه علامات النبوغ، فحصل على المركز الأول على شمال القاهرة في الإعدادية، فأجرت معه الإذاعة لقاءً بعد تفوقه وعندما سُئل عن سر تفوقه أجاب ببساطة تعكس شخصيته الهادئة الواثقة:

«الهدوء المنزلي ورعاية الوالدين».

 

ثم التحق بمدرسة عين شمس الثانوية النموذجية للمتفوقين عام 1963، التي لا تقبل سوى أوائل الجمهورية، وكان ذلك شهادة مبكرة على نبوغه العلمي وانضباطه الشخصي.

 

توالت بعد ذلك نجاحاته، ففي يوليو 1966 كان من أوائل الثانوية العامة على مستوى الجمهورية، ليلتحق بالكلية الفنية العسكرية، لينتقل بعدها إلى فصل جديد من التميز في الكلية الفنية العسكرية،

 

تخرّج في الكلية الفنية العسكرية عام 1971، متخصصًا في ميكانيكا الطيران (هياكل ومحركات الطائرات)، ليبدأ رحلة جديدة في القوات الجوية المصرية، في وقتٍ كانت فيه البلاد تتهيأ لاستعادة كرامتها بعد نكسة 1967.

 

بين الحرب والإنسانية

خدم في ألوية وسرايا الهليكوبتر، وكان مهندس السرب 91 من اللواء الجوي 547 هليكوبتر، مشاركًا في حرب الاستنزاف ثم في نصر أكتوبر المجيد. تميّز بإخلاصه وانضباطه، فعمل بالتدريس في الكلية الجوية، ونال ثقة رؤسائه وزملائه.

 

وحين عُيّن رئيسًا لقسم التخطيط والمتابعة، خُصصت له سيارة خاصة، لكنه كان يُصرّ على اصطحاب زملائه يوميًا لتوصيلهم إلى أعمالهم، في لفتة إنسانية صارت حديث الجميع عن تواضعه ونبله.

 

 

خرج من الحرب لا يحمل وسامًا على صدره فقط، بل تجربة إنسانية نادرة… فقد تعلّم أن النصر الحقيقي لا يُقاس بما تحققه من إنجازات، بل بما تمنحه من حب وإخلاص. بعد رحلة طويلة في سماء الطيران، بدأ فصل جديد أكثر عمقًا وسموًا، ولكن هذه المرة في سماء الروح.

 

من سماء الطيران إلى سماء الخدمة

وكما خدم الوطن بصمتٍ وإخلاص، كان الله يُعدّه لخدمة أعمق، لا تُقاس بالسلاح بل بالمحبة. في 8 أبريل 1993، تمت رسامته كاهنًا بيد قداسة البابا شنوده الثالث، ليُمنح اسمًا صار مرآةً لروحه: القمص حنانيا — أي “الحنان”. ومنذ اللحظة الأولى لخدمته، شعر الجميع أن الاسم جاء مطابقًا للحقيقة: رؤوف في الطبع، حنون في التعامل، وصامت يحمل في صمته سلامًا عميقًا.

 

يوم الرسامة على يد البابا شنودة الثالث

 

خدم في كنيستي العذراء بالمطرية ومارجرجس بمنشية التحرير، وتمت رسامته على كنيسة مارجرجس بمنشية التحرير وكان معروفًا باسم العميد رؤوف حتى بعد الكهنوت. وهي نفسها الكنيسة التي تربّت فيها زوجته تاسوني نجدة، وكأن الله رتّب منذ البداية أن يُكملا الرسالة معًا في المكان ذاته.

 

 

وبعد نحو ثلاثة عقود من الخدمة الكهنوتية، جاءت الرسامة للقمصية في 25 نوفمبر 2020، كتتويج لمسيرة طويلة من الإيمان والقيادة والخدمة الصادقة.

 

 

 

كانت هذه المرحلة تجسيدًا للعطاء الحقيقي — فبدل أن يُصلح الطائرات، صار يُصلح النفوس؛ وبدل أن يدرّب الجنود، صار يرشد القلوب.

 

ونحن اليوم مفتقدون أحاديث أبونا عن تلك الفترة الغنية من حياته، التفاصيل العميقة التي عاشها خلال الحرب، بين لحظات الانكسار والنصر، ،ومابين الخدمة العسكرية والكهنوتية . فقد أغلق الكتاب بكل أسراره حين دفع ثمن خطأ طبي لا يُنسى، تاركًا لنا صمتًا مؤثرًا يملأه الإعجاب والتأمل.

 

بعد هذه الرحلة المُلهمة، كان لابد أن نقترب أكثر من الجانب الإنساني في حياة القمص حنانيا

 

من هنا بدأنا حديثنا مع تاسوني نجدة رفيقة الدرب

 

أبونا حنانيا وأسرته

س: كيف كانت بداياتكم معًا في رحلة الحياة؟

 

تقول تاسوني نجدة، رفيقة دربه لأكثر من أربعة عقود، وهي تتحدث بصوتٍ يختلط فيه الحنين بالامتنان:

 

بدأت القصة بترتيب إلهي جميل. خالته كانت مُدرِّستي في الإعدادية وتحبني كثيرًا، وبعد سنوات التقينا صدفة، وحدثتني عن ابن أختها الضابط المهندس الباحث عن عروس. جاءت به إلى بيتنا، وكنت أفكر وقتها في الرهبنة، لكنه لفت نظري بهدوئه وابتسامته الرقيقة. تقدم رسميًا عام 1975، لكن والدي طلب أن ينتظر حتى أنتهي من الدراسة، فانتظرني ثلاث سنوات كاملة دون خطوبة أو تردد، حتى تمت خطبتنا عام 1977 وزواجنا بعد ذلك.

 

أبونا حنانيا وحفل زفاف ابنته الكبرى

 

وكيف كانت صفاته كزوج وأب بعد الزواج؟

أثمر زواجنا بنتين كانتا ثمرة حبٍّ صادق ومسيرةٍ مليئة بالعطاء، حملتا من أبيهما رقة القلب وقوة الإيمان. والصغرى، التي اختارت طريق الطب، أصبحت اليوم الطبيبة التي ترعاه بحبٍّ لا يقلّ عن حنانه علينا في سنوات عطائه وقوته. كان زوجًا مثاليًا بكل معنى الكلمة، محبًا وحنونًا ومتعاونًا في كل تفاصيل الحياة. يساعدني في تربية البنات، ويشارك في كل شيء داخل البيت رغم مشقّة عمله في القوات الجوية لم أسمع منه كلمة ضيق، كان دائم الابتسامة، يملأ البيت حبًّا ودفئًا كأنه حضنٌ يحمينا جميعًا.”

ابونا حنانيا وحفيده فادي

س : متى وكيف جاءت الدعوة للكهنوت؟

كنت أراه كاهنًا منذ زمن، وتمنيت أن يخدم ربنا. وذات يوم ذهب في زيارة عادية لدير الأنبا بيشوي، وهناك اختاره نيافة الأنبا بيشوي للرسامة في اليوم التالي. تمت رسامته يوم 8 أبريل 1993، باسم « حنانيا» بيد قداسة البابا شنوده.ومنذ اللحظة الأولى شعرت أن الاسم يعبّر عنه بحق، فهو رؤوف وحنون وطيب القلب.

 

 

التحول من الحياة العسكرية إلى الكهنوت لم يكن سهلًا، لكنه كان انتقالًا من انضباط الجيش إلى انضباط الروح، ومن قيادة الطيارين إلى رعاية النفوس.

س: هل كان التحول من الحياة العسكرية إلى الكهنوت صعبًا عليكِ من ناحية الحياة الأسرية والمسؤوليات؟

 

أكيد كان التحول صعبًا في البداية لأن التزامه كان شديدًا وغيابه كثيرًا ، تأثرنا من غيابه وكانت البنات حزينة لأنها لم تعد تراه كما في السابق. «لكنني اعتدت تحمل المسؤولية، وأعرف كيف أتصرف وأحتمل.»

 

وهل شعرتِ أحيانًا أن الخدمة أخذت منه مجهودًا أكبر من طاقته؟

كان يخدم بكل قلبه، لا يعرف الراحة حتى مرضه لم يوقفه. عام 1998 أصيب بجلطة ومع ذلك ظل يقول لي دائمًا: «من وضع يده على المحراث لا ينظر إلى الوراء».

 

 

س : كيف انعكست خبرته العسكرية على شخصيته وخدمته الكهنوتية؟

 

الجندية شكّلت جانبًا عميقًا من شخصية القمص حنانيا؛ فقد علّمته الانضباط والالتزام واتخاذ القرارات بحكمة والعمل بإخلاص، وهي صفات ظلّت ترافقه حتى بعد خلع بدلته العسكرية. ورغم أنه لم يكن كثير الحديث عن خدمته في القوات الجوية، كشفت مذكراته مدى إخلاصه ودقته وحرصه على سلامة زملائه والطائرات التي كان يشرف عليها، فلا يهدأ له بال حتى يُصلح أي عطل بنفسه. وكان محبوبًا من زملائه، وما زال الكثير منهم، من بينهم وزراء ومحافظون، يتواصلون معنا تقديرًا له ولأخلاقه الطيبة، وهي الروح ذاتها التي حملها معه إلى خدمته الكهنوتية

 

أبونا حنانيا وبعض من أصدقائه الوزراء والمحافظين

 

س : كيف تصفين أسلوبه في الخدمة؟ومبادئه

 

كان أبًا حنونًا للجميع، بطبيعته الطيبة ، يصدق الناس، يهتم بالتفاصيل الصغيرة، ويشعر بالآخرين قبل أن يتكلموا.كريمًا، يحترم الجميع، ويحب الجميع، فبادله الناس حبًا بحب ، محبته غيرت حياة الكثيرين، وهدوءه كان ملجأً للنفوس المتعبة.لذلك احبه الجميع لأنه يعطي بدون مقابل ويحمل لهم دائمًا محبة صادقة وصمتًا مريحًا

 

شعاره الدائم في الحياة كان بسيطًا وعميقًا: «نمسك في ربنا جامد.» القيمة عنده كانت الأدب، التواضع، تفضيل الآخرين، والعمل بصمت.

 

مواقف مؤثرة في الخدمة س : هل كان هناك مواقف معينة أو تجربة أثّرت فيكما معًا ولمستِ فيه عمل الله من خلال الخدمة؟

 

كانت تجربة واحدة كفيلة بأن تترسخ في ذاكرتي إلى الأبد، وتعلمني معنى العطاء والثقة في تدبير الله. أتذكر يومًا، حين عاد ابونا يوم قبض البركة الشهرية، طلبت منه مبلغًا للطعام قبل الصيام، فأخبرني أنه أعطى كل المرتب لمساعدة فتاة مريضة بالسرطان كانت تحتاج للعملية عاجلًا. وفي المساء، عاد متهللًا وقال لي: “رجعتلنا الفلوس وفوقها بوسة”. ، الأطباء اكتشوا أن المرض لم يكن له أثر. منذ ذلك اليوم، لم أعترض على أي عطاء

 

 

س : ما أكثر موقف رعوي أو إنساني خلال خدمته ولا تزال عالقة في ذاكرتك؟

 

أكثر ما يظل في ذاكرتي عن خدمته ليس موقفًا واحدًا، بل حياته كلها مليئة بالعطاء. كانت حياته كلها خدمة وعطاء: يزور المرضى يوميًا ويصلي لهم، ويبارك العرسان بنفسه، حتى يتحمل مصاريفهم ويكتب محاضر الزواج بدقة. أتذكر والدتي حين أصيبت بمرض وهي سن ٨٠ عاما فقال لي الست دي مش هاتعيش اد ماعاشت نروح نخدمها وناخد بركتها وفعلا تركنا منزلنا لخدمة أمي وفي أثناء مرضها عمل لها قنديل ٧صلوات دون ان اطلب منه استيقظ الساعه٤صباحا وصلي القنديل قبل قداس باكر وشفيت بعد معاناه دامت شهر من الألم والخطورة

 

 

سنوات المرض الأخيرة

س: وكيف كانت سنوات المرض الأخيرة؟

 

كانت تجربة صعبة مليئة بالألم، لكنها كشفت لنا كم الله قريب. عام 2017 بدأ يظهر عليه التعب، وتبين أنه شلل رعاش، ثم ضعف في الكلام والذاكرة. تحملنا رحلة طويلة من العلاج الطبيعي، والبذل، والرعاية المستمرة. ثم في 2023 أصيب بانسداد بولي، تلاه خطأ طبي سبب له جلطة أفقدته الحركة والكلام تمامًا. ومنذ ذلك الحين وهو طريح الفراش، يتألم في صمت، يبتسم لنا ويومئ برأسه كلما طلبنا منه أن يصلي لأحد. برغم كل شيء، ما زال وجهه يحمل نورًا وسلامًا. نراه اليوم شاهدًا حيًا على صبر أيوب وإيمان القديسين. كلما ضاقت بنا، نتذكر قوله القديم: «اسندنا يا رب بيمينك غير المغلوبة». وهكذا نكمل الطريق… بالإيمان، والرجاء، والحب.

 

 

أبونا حنانيا في نظر تاسوني؟

هو الحنان المتجسد… زوج رؤوف، أب محب، وكاهن أعطى كل ما يملك بمحبة وصمت وتواضع. أشكر الله كل يوم لأنه أرسل لي هذا الملاك ليكون شريك حياتي وخدمتي.

 

رغم مرضه ووهن الجسد، لا تزال ملامح الخدمة تملأ حضوره، كأن روحه ما زالت تجوب المذبح والبيوت والقلوب التي أحبها وخدمها. تقول تاسوني نجدة : إن صمته الآن ليس غيابًا، بل استمرارًا للعطاء بطريقة أخرى؛ عطاء بالصبر، وبالرضا، وبالسكينة التي يتركها فيمن حوله.

 

فقد علّم من خلال حياته أن الخدمة لا تُقاس بالكلمات ولا بالمجهود الظاهر، بل بالحب الذي يظل حاضرًا حتى في لحظات الضعف.

 

خاتمة السيرة: نموذج يحتذى ويبقى العطاء حاضرًا حتى في الصمت؛ فكما خدم في سماء الوطن، يخدم اليوم في صمتٍ يفيض نورًا وسلامًا، شاهدًا على أن الحب لا يشيخ، والعطاء لا ينتهي.

 

 

ابونا حنانيا وبعض من أصدقائه

شهادات أبونا حنانيا

رؤوف صبحي من أوائل الثانوية العامة

رؤوف صبحي من أوائل الجمهورية في الثانوية العامة

Oplus_131072

Oplus_131072

 

 

 

 

التعليقات

أخبار ذات صلة

صفحتنا على فيسبوك

آخر التغريدات