“من نيران المعركة إلى نور الخدمة……حكايات لم تُروَ عن رجل عاش بين النصر والصمت”

إعداد وحوار: [نازك شوقي]

بين صفحات التاريخ المضيئة وصفوف المقاتلين الذين سطروا بدمائهم تاريخ مصر، يبرز اللواء وحيد زكي حنين، الرجل الذي جمع بين هيبة القائد ووداعة الخادم

مع قداسة البابا شنودة

شارك في خطة الإشارة بحرب أكتوبر المجيدة، شهد ميادين القتال من العدوان الثلاثي 1956(خان يونس) إلى اليمن عام 1963، وسيناء عام 1967، وصولًا إلى السويس في 1973، ليكون شاهدًا على فصول الانكسار والنصر وصبر الرجال.

وبعد انتهاء خدمته العسكرية،أكد لنا أن البطولة لا تنتهي بانتهاء المعارك، بل تستمر في ساحات العطاء والإيمان.

في هذا الحوار الحصري، يفتح اللواء وحيد زكي حنين قلبه ليحكي عن رحلته التى تفيض بالبطولة والإيمان
وكان لي شرف الحديث مع سيادته،وتسجيل فصولها على لسان بطلها، أحد الرجال الذين كتبوا تاريخهم بالفعل قبل أن تكتبه الأقلام.

س: سيادة اللواء، لنبدأ من البداية.. من أين كانت أولى خطواتك في الحياة؟

ج: وُلدت في حي روض الفرج في فيلا جدي لوالدتي، فقد كان يشترط أن تلد بناته أول أطفالهن عنده. قضيت طفولتي هناك، ثم انتقلنا إلى حي الظاهر، وهناك التحقت بمدرسة الأورمان النموذجية، التي كانت وقتها من أعظم مدارس مصر، تقع داخل سراي السلطان حسين كامل وسط حديقة تمتد على ٣٢ فدانًا.
هذه المدرسة لم تُعطِني التعليم فقط، بل غرست فيّ الانضباط، الاحترام، والنظام… قيم ظلت ترافقني طوال حياتي، حتى بعد التحاقي بالكلية الحربية.

س: دخولك الكلية الحربية… هل كان حلمًا طفوليًا أم صدفة قدرية؟

ج : في الحقيقة، لم يكن في الحسبان. كنت قد قُبلت بالفعل في كلية العلوم بجامعة القاهرة، لكن بعض زملائي في المدرسة شجعوني على التقديم في الكلية الحربية من باب التجربة. تقدمت، واجتزت كل الاختبارات، وفجأة وجدت نفسي مقبولًا. حينها أيقنت أن الله هو من اختار لي هذا الطريق، وأن قدري أن أنتمي لأعظم مؤسسة… المؤسسة العسكرية المصرية.

علي الثلوج في بعثة السويد

س: كيف تتذكر أول يوم في الكلية الحربية؟

ج: لا يُنسى أبدًا. كنا آخر دفعة تلتحق بالمبنى القديم في منشية البكري قبل أن ننتقل إلى المقر الجديد بطريق صلاح سالم.
كانت فترة المستجدين صعبة جدًا… ٤٥ يومًا من التحول الكامل من حياة مدنية إلى حياة عسكرية صارمة. لكنها كانت المدرسة التي علمتني أن النظام والطاعة ليسا قيدًا، بل جناحان للكرامة والانتصار.

س: سمعنا أنك كنت “الطالب المختار” في فيلم وثائقي عن الكلية الحربية؟

ج: نعم، كانت وزارة الدفاع بصدد إنتاج فيلم واقعي يصور يومًا كاملًا من حياة الطالب العسكري. جرت اختبارات بين مئات الطلاب، واختارت إدارة الشؤون المعنوية المخرج الكبير بركات لتنفيذ العمل.
وفي النهاية تم اختياري — بفضل الله — لأكون الطالب الذي يجسد الحياة العسكرية داخل الكلية. شعرت حينها أن هذا التكليف لم يكن صدفة… بل رسالة: أن أُظهر للناس وجه البطولة الحقيقي، وجه الإنسان خلف الزي العسكري.

س : ننتقل إلى أولى ميادين الحرب… العدوان الثلاثي 1956. كيف كانت التجربة؟

ج: كنت وقتها ملازمًا في لواء مشاة بمدينة خان يونس بقطاع غزة.
كانت أيامًا عصيبة… الحصار، الجوع، أصوات القذائف… ثم جاءت الحادثة التي لا تغيب عن ذاكرتي : مقتل زملائنا الأطباء الثلاثة في عيادة الوحدة برصاص جيش الاحتلال،

أذكر هذه المأساة التي طمسها التاريخ منذ ما يقرب من سبعين عامًا، يجب أن نحكي الحقيقة كما حدثت. كان ضمن تمريض العيادة العسكرية مجند فلسطيني يُدعى أبو الكاس. وعندما رأى الدوريات الإسرائيلية تمر في شوارع خان يونس، صعد إلى سطح المنزل الذي كانت به العيادة العسكرية، تاركًا زملاءنا الثلاثة الأطباء داخل العيادة.

وبكل طيش وتهور، ألقى القنبلة اليدوية على مركبات الدورية الإسرائيلية. فما كان من الجنود إلا أن فتحوا جميع أنواع النيران على العمارة وكل من فيها. حاول الأطباء النجاة، فخرجوا سريعًا رافعين أيديهم وهم يصرخون: “We are doctors” استنادًا إلى حماية اتفاقية جنيف للأطباء، لكن الرد الإسرائيلي كان قاسيًا ومميتًا، فقتلوهم على الفور وتركوا جثثهم على الرصيف. ثم صعد الجنود إلى السطح، وقاموا بإلقاء أبو الكاس، المتهور، إلى الشارع.
مشهد مأساوي سيبقى شاهدًا على قسوة الحرب وخسة العدو.
أروي هذه الحادثة للتاريخ، لتبقى عالقة في ذاكرة الأجيال الجديدة، ليتذكروا حجم التضحيات والدماء التي رُويت على أرضنا، ولتكون شهادة حية على ما حدث رغم محاولات الطمس والنسيان.

علي مداخل مدينة غزة رقم ١

س : ما مدى تأثير هذه الحادثة على نفوسكم وشجاعتكم في مواجهة الخطر؟

ج : كانت هذه الحادثة الدافع الذي جعلنا نصر على العودة إلى مصر والانضمام إلى جيشنا العظيم في غرب قناة السويس، رغم أن سيناء كانت محتلة بالكامل.
كنا سبعة ضباط مع مجند واحد، متنكرين بالملابس المدنية، نندمج وسط طوابير النازحين الفلسطينيين، نسير على شريط سكة الحديد بلا خرائط أو بوصلة.
بعد أربعة أيام، قبض علينا عند محطة سكة حديد بير العبد، واكتشف الإسرائيليون هويتنا فقرروا إعدامنا بالرصاص.
قبل دقائق من التنفيذ، وصلت معجزة: الجنرال الإسرائيلي قائد المحور الشمالي أمر بإطلاق سراحنا وإبعادنا عن موقع القيادة إلى الصحراء.
لحظة من الرعب والقسوة، لكنها أيضًا شهادة على شجاعة الرجال الذين رفضوا الخضوع واستمروا في النضال رغم الخطر.
استأنفنا السير ثلاثة أيام أخرى حتى وصلنا أخيرًا إلى مشارف القنطرة شرق حيث التقطنا جيشنا العظيم،
تلك اللحظة علّمتني أن حياة الجندي ليست بيده، بل بيد الله وحده.

التقطنا جيشنا العظيم بعدان اخترقنا سيناء بالكامل من خان يونس الي القنطرة شرق سيرا علي الأقدام ٧ ليالي ٨ ايام بلا توقف

داخل مدينة خان يونس

س: بعد العدوان… جاءت حرب اليمن ثم النكسة. كيف واجهت هذه الفصول القاسية من التاريخ؟

ج: في اليمن خدمت عامين كاملين في محور الجوف على الحدود مع السعودية، في واحدة من أصعب بقاع الأرض: لا ماء، لا زرع، ولا حياة إلا للمقاتل الصبور.

في اليمن محور الجوف

 

& وكيف شكّلت هذه التجربة جزءًا من شخصيتك العسكرية؟

تلك الفترة كانت قاسية، لكنها صقلت فيّ روح الجندية الحقيقية؛ علمتني أن الانضباط ليس مجرد نظام بل أسلوب حياة، وأن الشجاعة لا تعني التهور، بل الثبات وقت الخطر. خرجت من اليمن وأنا أشعر أن الله أعدّني بتلك التجربة لأصعب المعارك القادمة، فقد كانت البداية الحقيقية لتكويني كضابط يعرف معنى المسؤولية والتضحية.

نكسة 1967: بين صدمة الهجوم والانضباط

ثم جاءت حرب 1967… كنت في اللواء الرابع مشاة على الطريق الأوسط بسيناء. رأيت بأم عيني السماء تمطر نارًا، والطائرات الإسرائيلية تضرب بلا هوادة.
رغم الخسائر الفادحة، نجانا الرب للمرة الثالثة. انسحبنا ونحن نحمي سيارتنا الجيب، وكنت أقول في نفسي:

“مش كل حرب هرجع ماشي… كفاية اللي حصل في 56.”

في قيادة الجيش الثالث الميداني

من مرارة النكسة إلى ملحمة الصمود

س : بعد النكسة… كيف تعاملت القوات المسلحة مع تلك المرحلة الصعبة؟ وكيف كنت ترى روح الضباط والجنود وقتها؟

ج : “بعد النكسة كانت مصر كلها في حالة وجع، لكننا لم ننهزم نفسيًا. بدأنا فورًا مرحلة حرب الاستنزاف، وكانت مدرسة حقيقية في الصمود والإصرار. عشنا سنوات طويلة على الجبهة نرصد تحركات العدو ونواجهه بكل ما لدينا من إمكانيات بسيطة ولكن بإرادة قوية جدًا. كانت تلك المرحلة هي التي أعادت للجيش ثقته بنفسه، ومهّدت للعبور العظيم.”

 

مع الرئيس السادات في معهد الإشارة

أكتوبر 1973: ساعة النصر

س: نأتي إلى الحرب التي غيّرت مجرى التاريخ… أين كنت وقت اندلاع حرب أكتوبر المجيدة؟ وما الدور الذي شاركت به تحديدًا؟

ج: “كنت وقتها في السويس، أشارك في خطة الإشارة ضمن قوات الجيش الثالث الميداني. كان يوم السادس من أكتوبر يوماً لا يُنسى، بدأنا العمل قبل اندلاع القتال بساعات لضمان جاهزية الاتصال بين كل الوحدات. عندما عبر أبطالنا القناة وارتفعت رايات النصر، شعرت أن كل ما مررنا به من تعب وألم في السنوات السابقة قد تكلل بالمجد. رأيت الجنود يعانقون بعضهم والدموع في أعينهم — دموع النصر والفخر.”

 

س: بعد الحروب والبطولات… ماذا عن حياتك الإنسانية والأسرية؟

ج: تزوجت عام 1961، لكن بصراحة لم يكن هناك توازن بين الخدمة والأسرة. كل حياتي كانت في الميدان، بعيدة عن القاهرة.
كنت أرى أولادي فقط في الإجازات، ومع ذلك أحمد الله أن كبروا وتخرجوا من الجامعة الأمريكية، وصار لكلٍ منهم طريقه.
ربما دفعت الأسرة ثمن الخدمة، لكن خدمة الوطن هي الأبقى والأعظم.

مع نيافة الانبا بيشوي

س: بعد التقاعد، انتقلت إلى خدمة من نوع آخر… خدمة الكنيسة. كيف بدأ هذا التحول الروحي؟

ج: بعد التقاعد بدأت الدراسة الإكليريكية، والتحقت بالكلية الإكليريكية وتخرجت عام 1994 ضمن دفعة فريدة، نعتبرها عائلة روحية مترابطة حتى يومنا هذا، ومن بين دفعتي أخي وصديقي المفكر الإقتصادى ناصر عدلي نسأل عن بعضنا باستمرار
أما عن أسم الدفعة أنا الذي اقترحت على الدفعة اسم “دفعة الصليب”، لأن الصليب رمز التضحية، تمامًا كما تعلمنا في الميدان.

 

مع نيافة الانبا بنيامين

& وهل بالفعل قمت بتأليف كتب أو دراسات دينية؟

ألّفت كتابًا عن خطوات رفع البخور والقداس الإلهي، راجعه ثلاثة من كبار الأساقفة، المتنيح الانبا ثيؤفيلوس اسقف البحر الاحمر والانبا بنيامين و المتنيح الانبا بيشوي بالاضافة الي دراسات في بعض الموضوعات الهامة ،ليبقى مرجعًا لكل من يخدم المذبح.

غلاف الكتاب الذي قام بوضعه اللواء وحيد زكي

 

 

س: بعد كل هذه السنوات… من هو اللواء وحيد زكي حنين في جملة واحدة؟

حين أعود بذاكرتي إلى كل ما مضى، لا أرى بطولات أو أوسمة… بل أرى يد الله تمسك بي كل مرة وتعيدني للحياة، كي أروي للأجيال القادمة أن الإخلاص لا يموت، وأن مصر لا تُخذل أبدًا.

✨ ختاماً

هكذا يتحدث اللواء وحيد زكي حنين بصوتٍ يختلط فيه رنين الرتبة بخشوع الإيمان.
إنه أحد أولئك الرجال الذين كتبوا التاريخ بعرقهم ودموعهم، ثم عادوا ليخدموا في صمت، مؤمنين أن المجد الحقيقي ليس في التصفيق، بل في الوفاء…
وفاء الجندي لوطنه، ووفاء الإنسان لخالقه.

علي مداخل مدينة غزة رقم ١

داخل مدينة خان يونس

 

في قيادة الجيش الثالث الميداني

 

في اليمن محور الجوف

 

علي الثلوج في بعثة السويد

 

اللواء وحيد زكي مع الرئيس السادات في معهد الإشارة

 

مع قداسة البابا شنودة

 

مع نيافة الانبا بيشوي

 

مع نيافة الانبا بنيامين

غلاف الكتاب الذي قام بوضعه اللواء وحيد زكي

 

التعليقات

أخبار ذات صلة

صفحتنا على فيسبوك

آخر التغريدات