انفراد….حين التقت الهندسة بالطب ….قصة أول دكتوراه مصرية بالذكاء الاصطناعي لطب الأسنان

وراء كل إنجاز علمي كبير، هناك قصة إنسانية تنبض خلف الأرقام والمعادلات.فمن قلب مصر،أشرقت تجربة استثنائية حملت توقيع الدكتورة لورين أرميا عشم، التي كتبت اسمها كأول باحثة في مصر تنجح في دمج الذكاء الاصطناعي بطب الأسنان.

من بيت يطل على شاطئ الإسكندرية بدأت الحكاية.ولدت لورين وسط عائلة جمعت بين الانضباط والعلم؛أطباء وضباط ومحاسبون ، والدتها مهندسة معمارية بوزارة الآثار، وجدّها أستاذ مرموق في جراحة النساء والتوليد ووكيل أول وزارة الصحة. لم تكن هذه مجرد ألقاب، بل ملامح بيئة صارمة تؤمن بأن التعليم هو السلاح الأول في معركة الحياة

كبرت الطفلة لورين بين جدران هذا البيت، لتجد أن النجاح ليس خيارًا بل قاعدة راسخة. التحقت بمدارس لغات، واجتازت الثانوية العامة عام 2011، ذلك العام الذي كان فيه المجموع يحسب تراكميًا للصفين الثاني والثالث. في عامها الدراسي الثاني، غيّب الموت جدتها، فترك رحيلها أثرًا قاسيًا انعكس على تحصيلها. لكن ما لبثت أن استعادت توازنها في الصف الثالث، لتحقق العلامة الكاملة “100%”، فيقف أهلها أمام بداية جديدة تشبه إعلان انطلاقة مختلفة.

دخلت كلية الهندسة بجامعة الإسكندرية، قسم هندسة الحاسبات والاتصالات، لتتخرج عام 2016 بامتياز. ورغم أن قلبها كان يميل إلى الهندسة المعمارية اقتداءً بوالدتها، فإن صوت الجد كان حاضرًا بقوة: «المستقبل للحاسبات، وستجدين فيه موقعك في أي وزارة أو مؤسسة ترغبين بها». ثم أضاف مبتسمًا: «يكفي أنك لم تسمعي كلامي من قبل وتختاري الطب، فاستمعي هذه المرة». كانت تلك الكلمات بمثابة وصية، سرعان ما غدت نبراسًا لمسيرتها.

 

لكن القدر لم يمهل الجد كثيرًا؛ فقد رحل عام 2015، قبل عام من تخرجها، تاركًا خلفه فراغًا بحجم جبل، ووصية لا تزال حيّة في قلبها. وبعد حصولها على البكالوريوس، تابعت دراستها العليا لتحصل على درجة الماجستير عام 2018. غير أن حلم الجد بالطب لم يغادرها، فوجدت بوابته في الهندسة الطبية، حيث بدأت بحثًا عن تأثير مرض السكري على شبكية العين وكيفية اكتشافه عبر تقنيات الحاسوب والبرمجة والذكاء الاصطناعي.

عامان من البحث قاداها إلى تسجيل الدكتوراه عام 2020، لتتعمق أكثر في رحلة الجمع بين الهندسة والطب. وبعد استكشاف طويل، وجدت أن مجال طب الأسنان هو الأكثر احتياجًا لتطبيقات الذكاء الاصطناعي، لما فيه من أرقام وقياسات دقيقة، تمامًا كما في الهندسة. عند هذه النقطة التقت الخيوط كلها: إرث العائلة الطبية، شغف الأرقام، وصوت الجد الذي لم يخفت، ليصنعوا معًا مسارًا فريدًا يمزج بين الطموح والوصية، بين الطب والهندسة.

 

وهنا، كان لابد أن أقترب منها أكثر، لأستمع إلى تفاصيل ترويها بنفسها لا بورق التاريخ. كانت الكلمات تتدفق منها بصدق، تحمل دفء التجربة وعمق الشغف، لتكشف عن رحلة إنسانية وعلمية تستحق أن تُحكى.

 

وبعد التعارف بدأت أسئلتي ، وكان أول ما طرحته عليها:

■ هل غيرتك رحلة البحث وأثرت على حياتك الشخصية؟ وما هي خططك وطموحاتك القادمة؟

لورين: طبعًا.. الدراسات والأبحاث غيّرتني جدًا. زمان كنت خجولة وبتكسف أتكلم أو أسأل، لكن مع الكلية والدراسات العليا شخصيتي اتبدلت، وبالأخص يوم إعلان النتيجة في الدكتوراه اللي كان لحظة فاصلة في حياتي؛ حسيت إني بقيت أهدأ، أقوى، وطريقة تفكيري اتغيرت 180 درجة. النهارده بدرس في جامعة الإسكندرية وجامعتها الأهلية والأكاديمية العربية، وبشرف على مشاريع التخرج للطلاب بثقة كبيرة.

أما الخطوة الجاية فهي فكرة لفتت نظري أثناء البحث وبحضّر إني أكمل عليها، لكن مش هينفع أصرح عنها دلوقتي خليني أقول إنها هتكون امتداد طبيعي لشغلي الحالي.. أما عن طموحي الأكبر إني أوصل يومًا للوزارة،

علشان أوسع أثر شغلي ويكون للعلم اللي بشتغل فيه

يخدم أكبر عدد ممكن من الناس.

■ رحلة الدكتوراه ليست سهلة.. من كان أكبر داعم لكِ خلال تلك الرحلة ؟

لورين : “الدعم الأكبر كانت أسرتي التي آمنت بقدرتي منذ البدايةو أبونا رويس الباخومي ، ومن أساتذتي الذين فتحوا أمامي أبواب المعرفة ” أ.د. شيرين يوسف رئيس قسم هندسة الحاسب في الاكاديمية العربية

■ ما الذي حفزك لاختيار موضوع صعب مثل دمج الذكاء الاصطناعي بطب الأسنان؟

لورين : أثناء بحثي في الذكاء الاصطناعي، وجدت أن طب الأسنان يشبه الهندسة في دقته وقياساته المعقدة. هذا الانسجام بين الهندسة والطب فتح لي الباب لتطوير نظام يقلل الأخطاء ويزيد دقة التشخيص، مما يمنح المريض طمأنينة أكبر.

■ هل كان لديكِ تجربة شخصية دفعتك للتفكير في هذا الموضوع؟

لورين : الحقيقة أن ألم الأسنان وحده يجعل أي شخص يعيد التفكير في قيمة التشخيص الصحيح. إضافة خطأ في الحكم على الحالة كان محفزًا للبحث عن وسيلة تساعد الطبيب على اتخاذ قرار أدق وتحافظ على راحة المريض.

■ ممكن توضحي للقارئ كيف الذكاء الاصطناعي يساعد في تشخيص تشوهات الأسنان والفكين؟

لورين: ببساطة، النظام يتلقى صور الأشعة، يحللها، ويحدد أنماط التشوهات. يقدم أيضًا حلولًا داعمة واقتراحات علاجية، ويتوقع مسار الحالة مع الوقت. الذكاء الاصطناعي يمنح الطبيب “عينًا إضافية” دقيقة، ويزيد أمان العلاج.

■ إيه الفرق الجوهري بين الطرق التقليدية في التشخيص والعلاج واللي بيقدمه بحثك الجديد من حلول ذكية؟

لورين : الطرق التقليدية تعتمد على خبرة الطبيب والنتائج تختلف حسب خبرة كل طبيب.

أما الذكاء الاصطناعي، فهو يتعلم من آلاف الحالات السابقة، يحلل الأشعة بسرعة ودقة أعلى، ويتيح حتى للطبيب حديث التخرج الاستفادة من الخبرة التراكمية للنظام.

■ إزاي النظام ممكن يقلل من الأخطاء البشرية في التشخيص والخطة العلاجية؟

لورين : الفكرة ان البرنامج تدرب على آلاف النماذج المشخّصة من قبل استشاريين كبار. الكمبيوتر يحلل الأشعة بنفس الطريقة تقريبًا، لكن مع نسبة خطأ أقل ووقت أسرع، دون تأثير العوامل البشرية مثل التعب أو التشتت على النتائج ويكون التشخيص المطلوب بكل دقة

■ اعتمدتِ في بحثك على “نماذج هجينة”.. ممكن توضحي لنا ببساطة إيه المقصود بيها وإزاي بتشتغل عمليًا؟

لورين : المقصود هو دمج أكثر من خوارزمية ذكاء اصطناعي في نموذج واحد لتعويض نقاط ضعف كل منها. النتيجة نظام أكثر كفاءة ومرونة يمكنه التعامل مع مختلف الحالات بدقة أكبر.

■ أي التخصصات الطبية يمكن أن تستفيد مباشرة من نتائج بحثك؟

لورين : الأكثر استفادة هو طب الأسنان، خصوصًا تقويم الأسنان وتشوهات الفكين. النظام أيضًا يمكنه التنبؤ بشكل الابتسامة النهائية ثلاثية الأبعاد بعد العلاج، مما يمنح المريض ثقة وحافز للاستمرار في خطة العلاج.

■ من الناحية العملية..هل هناك تطبيق عملي للنظام الآن؟

لورين: نعم، قبل مناقشة الرسالة جربنا النموذج في عيادتين متخصصتين في جراحة الفم والتقويم، وأشاد الأطباء بكفاءته. وتم توثيق التجربة ضمن الرسالة نفسها، وعرضها أثناء المناقشة كدليل عملي على إن الفكرة ليست مجرد بحث نظري، لكن لها تطبيق فعلي قابل للتوسع.

 

■ إيه أصعب تحديات واجهتك خلال رحلة الدكتوراه، خصوصًا إنك بتشتغلي في مجال جديد ومتشعب؟

لورين : أصعب ما واجهني بالاخص السنوات الخاصة برسالة الدكتوراه، كان حجم البيانات المطلوبة. كنت محتاجة “داتا” ضخمة ومن فئات عمرية مختلفة لأدرّب البرنامج على تشخيص جميع الحالات بدقة. . الرحلة كانت سلسلة طويلة من المحاولات والتصحيحات، لكنها في النهاية علمتني الصبر والإصرار.

 

■ لو رجعنا خطوة ورا.. هل شعرتِ بالإحباط أحيانًا؟ وايه الدافع انك تكملي؟

لورين : بالطبع الإحباط كان ضيف دائم، وسمعت تعليقات محبطة من بعض أطباء تقويم الأسنان نفسهم، زي “هو إيه اللي مدخلك في المجال ده؟ إحنا كأطباء بنهرب منه لأنه شديد الدقة والصعوبة”. لكن يمكن التحدي ده هو اللي خلاني أتمسك أكتر وأثبت إن الذكاء الاصطناعي قادر على دخول أصعب المجالات.

■ وقت المناقشة، دي لحظة استثنائية لأي باحث.. إيه كان شعورك أول ما سمعتِ قرار اللجنة؟ راحة، فخر، امتنان؟

لورين: أنا معروفة وسط عيلتي إن دموعي قريبة. أول ما سمعت القرار، وقفت مذهولة ومش عارفة إذا كنت وصلت فعلاً ولا لسه بحلم. اللحظة اللي كنت بتمناها سنين طويلة لقيتها قدامي، ومقدرتش أمسك نفسي من البكاء. كانت دموع فرحة وامتنان في نفس الوقت.

 

■ هل في كلمة أو موقف من اللجنة أو الحضور وقت المناقشة لسه عالق في ذهنك لحد دلوقتي؟

لورين: آه طبعًا كلمة دكتور أحمد، رئيس جامعة سويدي، مش ممكن أنساها. قال لي: “إيه يا بنتي ده كله؟ هو إحنا بنجهزك لجايزة نوبل!”. الكلمة دي كانت بمثابة وسام شرف بالنسبة لي. حسيت إنها شهادة تقدير أكبر من أي جائزة، ومن يومها بعتبر نفسي فعلاً أخدت جايزتي.

 

■ لما تم الإعلان عن إنجازك كأول دكتوراه في مصر في المجال ده، مين أول جهة أو شخصية بادرت بتكريمك أو تهنئتك رسميًا؟

 

لورين : التهنئة الأولى جت من قلب قسم هندسة الحاسب بكلية الهندسة بالأكاديمية العربية، وكانت لفتة دافئة ومؤثرة. وتهنئة مباشرة بعد المناقشة من قداسة البابا، تلاها تهنئة من الأنبا بافلي و الأب أبرام الوكيل. كما كرّمتني مؤسسة خريجي مدارس الراهبات والرهبان بالإسكندرية بكلمات تقدير دفعتني للفخر.

 

■ هل في تكريم معين أو لحظة تقدير حسيتِ إنها الأغلى على قلبك وسط رحلة البحث الطويلة؟

لورين : كل التكريمات كانت جميلة ومؤثرة بصراحة، لكن طاقة الدعم من القسم والأساتذة وأهل الذِكر الرسمية جعلت كل لحظة لها وزن خاص.

 

■ وبعد التكريم.. إيه الإحساس اللي غلب عليكي وقتها؟ ومين أكتر شخص كنتي حابة يشاركك لحظة النجاح والتكريم؟

لورين : كنت مرتبكة ومبسوطة في نفس الوقت، مختلط بامتنان.

أكتر شخص أتمنى كان يشاركني اللحظة دي هو جدي، دكتور حلمي سليمان، وكذلك جدتي — حسيت إنهم ليهم الفضل الأكبر في البذرة اللي زرعوها فيا.

 

■ بعد ما تم الإعلان عن إنجازك، إيه أكتر رسالة أو كلمة تهنئة أثرت فيكِ بجد؟

لورين : كلام الدكتورة دعاء طاهر، مؤسسة ورئيسة مؤسسة خريجي مدارس الراهبات والرهبان بالإسكندرية، لما قالت إنها فخورة بيا واعتبرتني “بنتهم” المؤسسة أثر فيّا قوي. وكلمة الدكتورة مروى حافظ، رئيسة مؤسسة “أنا مصراوية” والأمين العام المساعد لحزب “حماة الوطن”، كانت أيضًا لها وقع جميل.

 

■ إزاي كان رد فعل عيلتك وأصدقائك لما عرفوا إنك صاحبة أول دكتوراه في مصر تدمج الذكاء الاصطناعي بطب الأسنان؟

لورين : رد الفعل كان دفء وفخر؛ حسيت إن تعب السنين اتكرم وإن اللي حواليا مبسوطين وبيقدّروا المشوار.

 

■ البعض ممكن يتساءل: هل ممكن الذكاء الاصطناعي يستغنى عن دور الطبيب مستقبلًا، ولا دوره هيبقى مكمل فقط؟

لورين : مستحيل يستغنى عنه. الذكاء الاصطناعي دورُه مساعد ومُكمّل بس — أداة بتقوّي قرار الطبيب وتقلّل الأخطاء، لكن القرار الطبي النهائي يظل للطبيب.

 

■ لو رجع بيك الزمن، هل كنتِ هتختاري نفس موضوع البحث ولا حاجة مختلفة؟

لورين : أكيد كنت هختاره تاني — ومخطط أكمل عليه.

 

■ لو بصينا قدام شوية.. شايفة مستقبل الذكاء الاصطناعي في طب الأسنان بعد 5 أو 10 سنين هيكون عامل إزاي؟

 

لورين : العالم بيتطور بسرعة ولازم نواكبه، لكن مفيش غنى عن العنصر البشري. الذكاء الاصطناعي هيكون أكتر حضورًا في التشخيص والتخطيط الثلاثي الأبعاد للابتسامة، هيقلّل الأخطاء ويوفّر وقت، لكن الطبيب يظل المحور الأساسي لا غنى عنه.

 

■ وأخيرًا.. بتحبي توجهي كلمة شكر لمين بعد الإنجاز ده، وإيه نصيحتك لأي باحث أو طبيب شاب عايز يدمج التكنولوجيا بالطب؟

لورين: بشكر جدي دكتور حلمي سليمان اللي زرع البذرة، ومامي المهندسة ليديا، وأسرتي كلها، وأستاذتي الدكتورة شيرين يوسف — رئيس قسم هندسة الحاسب والذكاء الاصطناعي بالأكاديمية العربية — اللي ساندتني من أول يوم دخلت فيه الاكاديميه من ٢٠١٦ من لحظه التحاقي بدرجة الماجستير الي يومنا هذا مروراً بالدكتوراه صدقتني و دعمتني و ساندتني

وعلى رأس الجميع  كان للأب الروحي القمص رويس الباخومي دورٌ بارز كأكبر داعم ومشجع وسند لي بعد رحيل جدي،وله الفضل الكبير في مسيرتي بشكره من كل قلبي

ونصيحتي للباحث أو الطبيب الشاب: الدنيا مليانة صعوبات، لكن الطموح هو اللي يحركك. تعلّم التكنولوجيا صح عشان تخدم الطب، وخلي هدفك تحسين رعاية المريض وتخفيف الأخطاء.

 

✍️ وهكذا انتهى لقاؤنا، لنترك وراءنا سيرة تلهم وتثبت أن الجدّ والإصرار قادران على الجمع بين أكثر من طريق في مسار واحد. هي لم تكتفِ بوصية الجد ولا بطموحها الشخصي، بل صنعت لنفسها بصمة خاصة بين الهندسة والطب. وفي ختام هذا الحوار، نهنئها من القلب على ما حققته حتى الآن، ونتمنى لها أن ترى ثمار جهدها قريبًا، وأن يفتح الله أمامها أبواب التوفيق والنجاح، لتبقى نموذجًا يُحتذى به وتظل نورًا يضيء درب كل من يؤمن بأن الأحلام لا تعرف المستحيل.

 

 

التعليقات

أخبار ذات صلة

صفحتنا على فيسبوك

آخر التغريدات